فصل: الفصل الثالث فيما يتصرف فيه صاحب هذا الديوان بتدبيره ويصرفه بقلمه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الفصل الثالث فيما يتصرف فيه صاحب هذا الديوان بتدبيره ويصرفه بقلمه:

ومتعلق ذلك اثنا عشر أمراً:
الأمر الأول: التوقيع والتعيين:
أما التوقيع فهو الكتابة على الرقاع والقصص بما يعتمده الكاتب من أمر الولايات والمكاتبات في الأمور المتعلقة بالمملكة، والتحدث في المظالم، وهو أمر جليل، ومنصب حفيل، إذ هو سبيل الإطلاق والمنع، والوصل والقطع، والولاية والعزل إلى غير ذلك من الأمور المهمات والمتعلقات السنية. واعلم أن التوقيع كان يتولاه في ابتداء الأمر الخلفاء، فكان الخليفة هو الذي يوقع في الأمور السلطانية، وفصل المظالم، وغيرهما.
الأمر الثاني: نظره في الكتب الواردة عليه:
قال أبو الفضل الصوري: كان الواجب أن لا يقرأ الكتب الواردة على الملك إلا هو بنفسه؛ ولما كان ذلك متعذراً علي لوفورها، واتساع الدولة، وكثرة المكاتبين من أصناف أرباب الخدم، ووصول الكتب إليه من الأقطار الثانية، والممالك المتباعدة، وضيق الزمان عن تفرغه لذلك، وجب تفويضه إلى متولي ديوان رسائله. قال: ولما كان حال متولي صاحب الديوان كذلك لاشتغاله بالحضور عند الملك في بعض الأوقات لقراءة الكتب الواردة، وتقرير ما يجاب به عن كل منها، مع شغله بتصفح ما يكتب في الديوان والمقابلة به، احتاج أن يرد أمرها إلى كاتب يقوم مقامه على ما سيذكر في صفات كتاب الديوان فيما بعد إن شاء الله تعالى.
الأمر الثالث: نظره فيما يتعلق برده الأجوبة عن الكتب الواردة على لسانه:
قال أبو الفضل الصوري: الأمر الرابع نظره فيما تتفاوت به المراتب في المكاتبات والولايات من الافتتاح والدعاء، والألقاب، وقطع الورق ونحو ذلك وقد كان هذا الباب في الزمن المتقدم في غاية الضبط والتحرير، خصوصاً في زمن الخلفاء من بني العباس والفاطميين؛ لا يزاد أحد في الألقاب على ما لقبه به الخليفة كبيراً كان أو صغيراً، ولا يسمح له بزيادة الدعوة الواحدة فضلاً عما فوقها. أما الآن فقد صار ذلك موكولاً إلى نظر صاحب ديوان الغناء ينزل كل أحد من المكاتبين وأرباب الولايات منزلته على ما يقتضيه مصطلح الزمان من علو وهبوط؛ وحينئذ فعليه أن يحتاط في ذلك ويؤاخذ كتاب الإنشاء بالمشاحة فيه، والوقوف عند ما حد لهم من غير إفراط ولا تفريط. فقد قال صاحب مواد البيان: إن الملوك تسمح ببدارت المال، ولا تسمح بالدعوة الواحدة وناهيك بذلك تشديداً واحتياطاً.
الأمر الخامس: نظره فيما يكتب من ديوانه وتصفحه قبل إخراجه من الديوان:
قال أبو الفضل الصوري: على متولي الديوان أن يتصفح ما يكتب من ديوانه من الولايات والمناشير والمكاتبات؛ إذ الكاتب غير معصوم من الخطأ واللحن وسبق القلم؛ وعيب الإنسان يظهر منه لغيره ما لا يظهر له، فما أبصره من لحن أو خطإ أصلحه ونبه كاتبه عليه فيحذر من مثله فيما يستأنفه، فإن تكرر منه زجره عن ذلك، وردعه عن العود إلى مثله، إذ الغرض الأعظم أن يكون كل ما يكتب عن الملك كامل الفضيلة خطاً ولفظاً ومعنى وإعراباً حتى لا يجد طاعن فيه مطعناً؛ فربما زل الكاتب في شيء فيزل بسببه متولي الديوان، بل السلطان. بل الدولة بأسرها. قال: فإذا فرغ من عرض الكتاب والوقوف عليه، كتب عليه بخطه ما يدل على وقوفه عليه ليكون ملتزماً بدركه.
وكأنه يشير إلى ما تقدم من كلامه: من أنه إن كان رسالة كتب عنوانها بخطه، وإن كان منشوراً ونحوه، كتب تاريخه بخطه.
ثم قال: فإن كان متولي الديوان مشتغلاً بحضور مجلس السلطان ومخاطباته والتلقي عنه، ولا يمكنه مع ضيق الزمان توفية كل ما يكتب بالديوان حق النظر فيه وتصفح ألفاظه ومعانيه، نصب له في ذلك نائباً كامل الصنعة حسن الفطنة موثوقاً به فيما يأتي ويذر، يقوم مقامه في ذلك. قال: وليس ذلك لأنه يغني عن نظر متولي الديوان، ولكن ليتحمل عنه أكثر الكل ويصر إليه وقد قارب الصحة أو بلغها فيحصل على الراحة من تعبها، ويصرف نظره إلى ما لعله خفي على المتصفح من دقائق المعاني وعويص المدارك، فيقل زمن النظر عليه، ويظفر بالغرض المطلوب في أقرب وقت.
الأمر السادس: نظره في أمر البريد ومتعلقاته:
وهو من أعظم مهمات السلطان، وآكد روابط الملك قال زياد لحاجبه: وليتك حجابي وعزلتك عن أربع: هذا المنادي إلى الله في الصلاة والفلاح فلا تعوجنه عني، ولا سلطان لك عليه؛ وصاحب الطعام، فإن الطعام إذا أعيد تسخينه فسد؛ وطارق الليل فلا تحجبه فشر ما جاء به، ولو كان خيراً ما جاء في تلك الساعة؛ ورسول الثغر، فإنه إن أبطأ ساعة أفسد عمل سنة فأدخله علي ولو كنت في لحافي. وقد تقدم أن صاحب ديوان الإنشاء هو الذي يتلقى المكاتبات الواردة ويقرؤها على السلطان ويجاوب عنها، فيجب على صاحب هذه الوظيفة أن يكون متيقظاً لما يرد على السلطان من نواحي ممالكه وقاصيات أعماله، فإنه المعتمد عليه في ذلك والمعول عليه في أمره.
وقد كان أمر البريد في الزمن المتقدم والدوادارية يومئذ أمراء صغار وأجناد معدون لصاحب ديوان الإنشاء، تخرج رسالة السلطان على لسان بعض الدوادارية بما يرسم به لمن يركب البريد في المهمات السلطانية وغيرها ويأتي بها إلى صاحب ديوان الإنشاء فيعلق رسالته على ما تقدم في تعليق الرسالة ويعمل بمقتضاها. وكان للبريد ألواح من نحاس كل لوح منها بقدر راحة الكف أو نحوها منقوش على أحد وجهيه ألقاب السلطان، وعلى الوجه الآخر: لا إله إلا الله محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وفي رقبته شرابة من حرير أصفر يجعلها راكب البريد في عنقه ويرسل اللوح على صدره علامة له فإذا حضرت الرسالة إلى كاتب السر دفع إلى البريدي لوحاً من تلك الألواح وكتب ل ورقة بخطه إلى أمير آخور البريد بالإصطبل السلطاني بما تبرز به الرسالة من الخيل، ويكتب اسمه في آخر الكتاب الذي ينفذ معه بين السطور، ويختم الكتاب، ويسلم إليه، ويكتب له ورقة طريق بالتوجه إلى جهة قصده، وحمله على ما رسم له به من خيل البريد على ما سيأتي ذكره في الكلام على كتابة أوراق الطريق، ويترك اسمه، وتاريخ سفره، والجهة التي توجه إليها، والشغل الذي توجه بسببه بدفتر بالديوان.
فلما عظم أمر الدوادارية واستقر عند الدوادار كاتب م كتاب الدست يعلق عنه الرسالة على ما تقدم في الكلام على تعليق الرسالة، رجع أكثر الأمر في ذلك إلى الدوادار، وصار كاتب الدست الذي يخدمه يعلق الرسالة عنه بذلك كما يعلقها عنه في غيره على ما تقدم. فإن كان البريد إلى جهة الشام كتب في ورقة لطيفة: يرسم برسالة المقر المخدوم الفلاني أمير دوادار الناصري أوالظاهري مثلاً أعز الله تعالى أنصاره أن يكتب ورقة طريق شريفة باسم فلان الفلاني المرسوم له بالتوجه إلى الجهة الفلانية، ويحمل على فرس أو فرسين أو أكثر من خيل البريد، ثم يؤرخ. وإن كان البريد إلى الوجه القبلي أو البحري أو غير ذلك كتب: أن يكتب ورقة فرس بريد باسم فلان الفلاني من غير تعرض لذكر ورقة طريق، وباقي الكلام على نحو ما تقدم، ويؤرخ ويجهز تلك الورقة صحبة البريدي إلى صاحب ديوان الإنشاء فيخلد الورقة بديوانه عند دواداره في جملة أضابير الديوان، ويكتب له في ورقة صغيرة أيضاً ما مثاله: أمير آخور البريد المنصور، يحمل فلان الفلاني على فرس واحد أو أكثر من خيل البريد المنصور عند توجهه إلى الجهة الفلانية ويؤرخ، ويدفع إلى البريدي لندفعها إلى أمير آخور البريد تخلد عنده، ويكتب اسم البريدي في آخر الكتاب على ما سيأتي في أول المكاتبات إن شاء الله تعالى، ويختم الكتاب ويدفع إليه.
قلت: وقد بطل الآن ما كان من أمر الألواح وتركت، وصار كل بريدي عنده شرابة حرير صفراء يجعلها في عنقه من غير لوح. اللهم إلا أن يتوجه البريدي إلى مملكة من الممالك النائية، فيحتاج إلى الأبواب السلطانية من نيابة من نيابات المملكة في ورقة الطرين وخيل البريد. ولصاحب ديوان الإنشاء التنبيه على مصالح مراكز خيل البريد في الديار المصرية وغيرها.
وسيأتي الكلام على مراكز البريد بمصر والشام، مفصلة في موضعها إن شاء الله تعالى.
واعلم أنه يجب على الناظر في أمر البريد: من الملك فيمن دونه أن يحتاط فيمن يرسله في الأمور السلطانية، فيوجه في كل قضية من يقوم بكفايتها وينهض بأعبائها، ويختص الملوك وأكابر النواب بأكابر البريد وعقلائهم وأصحاب التجارب منهم، خصوصاً في المهمات العظيمة التي يحتاج الرسول فيها إلى تنميق الكلام، وتحسين العبارة، وسماع شبهة المرسل إليه، ورد جوابه وإقامة الحجة عليه، فإنه يقال: يستدل على عقل الرجل بكتابه وبرسوله. وقد قيل: من الحق على رسول الملك أن يكون صحيح الفكرة والمزاج، ذا بيان وعارضة ولين واستحكام منعة؛ وأن يكون بصيراً بمخارج الكلام وأجوبته، ومؤدياً للألفاظ عن الملك بمعانيها، صدوقاً بريئاً من الطمع. وعلى مرسله امتحانه قبل توجيهه في مقاصده؛ ولا يرسل إلى الملوك الأجانب، إلا من اختبره بتكرير الرسائل إلى نوابه وأهل مملكته. فقد كان الملوك فيما سلف من الزمن إذا آثروا إرسال شخص لمهم، قدموا امتحانه بإرساله إلى بعض خواص الملك ممن في قرار داره، في شيء من مهماته، ثم يجعل عليه عيناً فيما يرسل به من حيث لا يشعر، فإذا أدى الرسول رسالته رجع بجوابها وسأل الملك عينه؛ فإن طابق ما قاله الرسول ما أتى به من هو عين عليه وتكرر ذلك منه، صارت له الميزة والتقدمة عند الملك، ووجهه حينئذ في مهمات أموره.
وكان أردشير بن بابك آخر ملوك الفرس يقول: حق على الملك الحازم إذا وجه رسولاً إلى ملك أن يردفه بآخر، وإن وجه برسولين وجه بعدهما باثنين، وإن أمكنه أن لا يجمع بين رسله في طريق فعل.
ومن الحزم أن الرسول إذا أتاه برسالة أو كتاب في خير أو شر أن لا يحدث في ذلك شيئاً حتى يرسل مع رسول آخر يحكي له كتابه أو رسالته حرفاً حرفاً ومعنى معنى فإن الرسول ربما فاته بعض ما يؤمله فافتعل الكتب، وغير ما شوفه به فأفسد ما بين المرسل والمرسل إليه: من ملك أو نائب ونحهما، وربما أدى ذلك إلى وقوع فتنة بني الملكين، أو خروج النائب عن الطاعة وتفاقم الأمر بسبب ذلك وسرى إلى ما لا يمكن تداركه.
وقد حكي أن الإسكندر وجه رسولاً إلى بعض ملوك الشرق فجاء برسالة شك الإسكندر في حرف مها فقال له: ويلك؟ إن الملوك لا تخلو من مقوم ومسدد إذا مالت وقد جئتني برسالة صحيحة الألفاظ بينة المعاني، وقد وجدت فيها حرفاً ينقضها؛ أفعلى يقين أنت من هذا الحرف أم شاك فيه؟ فقال بل على يقين منه أنه قاله. فأمر الإسكندر أن تكتب الألفاظ حرفاً حرفاً ويعاد إلى الذي جاء ذلك الرسول من عنده مع رسول آخر فيقرأ عليه ويترجم له. فلما وصل الرسول الثاني إلى ذلك الملك وقرأ عليه ما كتب إليه به الإسكندر في أمر ذلك الرسول، أنكر ذلك الحرف الذي أنكره الإسكندر وقال للمترجم: ضع يدك على هذا الحرف فوضعها فأمر أن يعلم بعلامة وقال: إني أجل ما وصل عن الملك أن أقطعه بالسكين، ولكن ليضع هو فيه وفي قائله ما شاء. وكتب إلى الإسكندر: إن من أس المملكة صحة لهجة الرسول؛ إذا كان عن لسانه ينطق، والى أذنه يؤدي. فلما عاد الرسول إلى الإسكندر دعا برسوله الأول وقال: ما حملك على كلمة قصدت بها إفساد ما بين ملكين؟ فأقر أن ذلك كان منه لتقصير رآه من الملك، فقال له الإسكندر: فأراك قد سعيت لنفسك لا لنا؟؟! فاتك ما أملت مما لا تستحقه على من أرسلت إليه فجلعت ذلك ثأراً توقعه في الأنفس الخطيرة الرفيعة! ثم أمر بلسانه فنزع من قفاه. وكأنه رأى إتلاف نفس واحدة أولى من إتلاف نفوس كثيرة بما كان يوقعه بين الملكين من العداوة ويثير من الإحن وضغائن الصدور.
وقد كان أردشير بن بابك يقول: كم من دم سفكه الرسول بغير جله! وكم من جيوش هزمت وقتل أكثرها! وكم حرمة انتهكت! وكم مال نهب وعقد نقض بخيانة الرسل وأكاذيب ما يأتون به!.
الأمر السابع: نظره في أمر أبراج الحمام ومتعلقاته:
سيأتي فيما بعد إن شاء الله تعالى أن بالديار المصرية أبراجاً للحمام الرسائلي يحمل البطائق في أجنحته من مكان إلى مكان؛ منها برج بقلعة الجبل، وأبراج بطريق الشام بمدينة بلبيس، وأبراج بطريق الإسكندرية. وكان قبل ذلك يدرج إلى قوص، ومنها إلى أسوان وعيذاب ما يقطع ذلك الآن. وحمام كل برج ينقل منه ف يكل يوم إلى البرج الذي يليه ليطلب برجه الذي هو مستوطنه إذا أرسل. فإذا عرض أمر مهم أو ورد بريد أو غيره ممن يحتاج إلى مطالعة الأبواب السلطانية به إلى مكان من الأمكنة التي فيها برج من أبراج الحمام، كتب وإليها المتحدث فيها بذلك للأبواب السلطانية، وبعث بها على أجنحة الحمام. وقد جرت العادة أن تكتب بطاقتان وتؤرخان بساعة كتابتهما من النهار، ويعلق منها في جناح طائر من الحمام الرسائلي ويرسلان، ولا يكتفى بواحد لاحتمال أن يعرض له عارض يمنعه من الوصل إلى مقصده. فإذا وصل الطائر إلى البرج الذي وجه به إليه، أمسكه البراج وأخذ البطاقة من جناحه وعلقها بجناح طائر من حمام البرج الذي يليه، أي من المنقول إلى ذلك البرج، وعلى ذلك حتى ينتهي إلى برج القلعة فيأخذ البراج الطائر والبطاقة في جناحه ويحضره بين يدي الدوادار الكبير فيعرض عليه، فيضع البطاقة عن جناحه بيده: فإن كان الأمر الذي حضرت البطاقة بسببه خفيفاً لا يحتاج إلى مطالعة السلطان به، استقل الدوادار به؛ وإن كان مهماً يحتاج إلى إعلام السلطان به، استدعى كاتب السر وطلع لقراءة البطاقة على السلطان كما يفعل في المكاتبات الواردة. وكذلك الحكم فيما يطرأ من المهمات بالأبواب السلطانية فإنه يوجه بالحمام من برج القلعة إلى الجهة المتعلقة بذلك المهم. وفي معنى ذلك كل نيابة من النيابات العظام بالممالك الشامية كدمشق، وحلب، وطرابلس ونحوها مع ما تحتها من النيابات الصغار والولايات، على ما سيأتي ذكره في مواضعه إن شاء الله تعالى.
الأمر الثامن: نظره في أمور الفداوية:
وهم طائفة من الإسماعيلية المنتسبين إلى إسماعيل بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين الحسين السبط بن علي أبي طالب كرم الله وجهه، من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهم فرقة من الشيعة معتقدهم معتقد غيرهم من سائر الشيعة أن الإمامة بعد النبي صلى الله عليه وسلم انتقلت بالنص إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم إلى ابنه الحسن، ثم إلى أخيه الحسين، ثم تنقلت في بني الحسني إلى جعفر الصادق، ثم هم يدعون انتقال الإمامة من جعفر الصادق إلى ابنه إسماعيل، ثم تنقلت في بنيه.
وسموا الفداوية لأنهم يفادون بالمال على من يقتلونه. ويسمون في بلاد العجم بالباطنية لأنهم يبطنون مذهبهم ويخفونه، وتارة بالملاحدة لأن مذهبهم كله إلحاد. وهم يسمون أنفسهم أصحاب الدعوة الهادية. وسيأتي الكلام عند ذكر تحليفهم في الكلام على الأيمان إن شاء الله تعالى. وكانوا في الزمن المتقدم قد علت كلمتهم، واشتدت شكيمتهم، وقويت شوكتهم، واستولوا على عدة قلاع ببلاد العجم وبلاد الشام. فأما بلاد العجم فكان بداية قوتهم وانتشار دعوتهم في دولة السلطان ملكشاه السلجوقي في المائة الخامسة. وذلك أنه كان من مقدميهم رجل اسمه عطاش فنشأ له ولد يسمى أحمد فتقدم في مذهبهم وارتفع شأنه فيهم، وألم به من في بلاد العجم منهم، فغلب على قلعة بأصبهان، كان قد بناها السلطان ملكشاه المتقدم ذكره، وقلعة بالطالقان تعرف بقلعة الموت؛ وكان من تلامذته رجل يقال له الحسن بن الصباح ذو شهامة وتقدم في عليم الهندسة والحساب والنجوم والسحر، فاتهمه بالدعوة للخلفاء الفاطميين، وهم من جملة طوائف الإسماعيلية ففر الحسن بن الصباح منه هارباً إلى مصر، وبها يومئذ المستنصر بالله خامس خلفاء الفاطميين فأكرمه وأحسن نزله، وأمره بأن يخرج إلى البلاد للدعوة إلى إمامته فأجابه إلى ذلك، وسأله من الإمام بعده، فقال إنه ابني نزار وهو الذي تنسب إليه النزارية منهم. فخرج ابن الصباح من مصر وسار إلى الشام، والجزيرة، وديار بكر، وبلاد الروم يدعوا إلى إمامة المستنصر ثم ابنه نزار من بعده، وسار إلى خراسان وجاوزها إلى ما وراء النهر، ودخل سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة، ثم استولى على قلعة أصبهان واستضاف إليها عدة قلاع بتلك النواحي في سنة تسع وتسعين وأربعمائة، وقويت شوكة هذه الطائفة بتلك البلاد، وعظم أمرها، وخافها الملوك وسائر الناس، وبقي ابن الصباح على ذلك حتى مات في سنة ثمان عشرة وخمسمائة. وتنقلت تلك القلاع بعده حتى صار أمرها إلى شخص من عقبه يسمى جلال الدين بن حسن ألكيا الصباحي فأظهر التوبة في سنة سبعه وخمسين وخمسمائة، وبقي على ذلك إلى سنة ثمان وستمائة، فأظهر شعائر الإسلام، وكتب إلى جميع قلاع الإسماعيلية ببلاد العجم والشام، فأقيمت فهيا، وبقي حتى توفي سنة ثمان عشرة وستمائة، وقام بعده ابنه علاء الدين محمد، وتداول مقدموهم تلك القلاع إلى أن خرج هولاكو على بلاد العجم في سنة ست وخمسين وستمائة باستصراخ أهل تلك البلاد من عيثهم وفسادهم، فخرب قلاعهم عن آخرها.
وأما بلاد الشام فكان أول قوتهم بها أنه دخل منهم إلى الشام رجل يسمى بهرام بعد قتل خاله إبراهيم الأسدابادي ببغداد في أيام تاج الملوك بوري صاحب الشام، وصار إلى دمشق ودعا إلى مذهبه بها، وعاضده سعيد المردغاني، وزير بروري، حتى علت كلمته في دمشق وسلم له قلعة بانياس، فعظم أمر بهرام وملك عدة حصون بالجبال أظنها القلاع المعروفة بهم إلى الآن، وهي سبع قلاع بين حماه وحمص متصلة بالبحر الرومي على القرب من طرابلس وهي: مصياف، والرصافة، والخوابي والقدموس، والكهف، والعليقة، والمينقة، ومن هنا سميت بقلاع الدعوة. وكان آخر الأمر من بهرام أنه قتل في حرب جرت بينه وبين أهل وادي التيم، وقام مقامه بقلعة بانياس رجل منهم اسمه إسماعيل، وأقام الوزير المردغاني عوض بهرام بدمشق رجلاً منهم اسمه أبو الوفاء فعظم أمره بدمشق حتى صار الحكم له بها، وهم بتسليمها للفرنج على أن يسلموا له صور عوضاً منها، فشعر به بوري صاحب دمشق فقتله وقتل وزيره المردغاني ومن كان بدمشق من هذه الطائفة، ولم يزل أمرهم يتنقل بالشام لواحد بعد واحد من مقدميهم إلى أن كان المقدم علهيم في أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب أبو الحسن راشد الدين سنان البصري وكان بينهم وبين السلطان صلاح الدين مباينة ووثبوا عليه مرات ليقتلوه فلم يظفروا بذلك إلى أن حاصر قلاعهم في سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة وضيق عليهم، فسألوه الصفح عنهم فأجابهم إلى ذلك. وبقي راشد الدين سنان مقدمأً عليهم حتى مات في سنة ثمان وثمانين وخمسمائة.
قال في مسالك الأبصار: وهم يعتقدون أن كل من ملك مصر كان مظهراً لهم، ولذلك يتولونه ويرون إتلاف نفوسهم في طاعته لما ينتقل إليه من النعيم الأكبر بزعمهم. قال: ولصاحب مصر بمشايعتهم مزية يخافه بها أعداؤه لأنه يرسل منهم من يقتله ولا يبالي أن يقتل بعده، ومن بعثه إلى عدو له فجبن عن قتله قتله أهله إذا عاد إليهم، وإن هرب تبعوه وقتلوه.
قلت: وكانوا في الزمن المتقدم يسمون كبيرهم المتحدث عليهم تارة مقدم الفداوية، وتارة شيخ الفداوية. وأما الآن فقد سموا أنفسهم بالمجاهدين وكبيرهم بأتابك المجاهدين؛ وقد كانت السلاطين في الزمن المتقدم تمنع هؤلاء من مخالطة الناس فلا يخرجون من بلادهم إلى غيرها إلا من رسم له بالخروج لما يتعلق بالسلطان ولا يمكن أحد من التجار م الدخول إلى بلادهم لشراء قماش وغيره. وكان يكتب بذلك مراسيم من ديوان الإنشاء بالأبواب السلطانية ويوجه بها لنائب الشام المحروس. وسيأتي إيراد شيء من نسخ هذه المراسيم عند ذكر مرسوم أتابكهم في الولايات إن شاء الله تعالى!.
الأمر التاسع: نظره في أمر العيون والجواسيس:
وهو جزء عظيم من أس الملك وعماد المملكة. وعلى صاحب ديوان الإنشاء مداره وإليه رجوع تدبيره واختيار رجاله وتصريفهم. فيجب عليه الاحتياط في أمر الجواسيس أكثر ما يحتاط في أمر البريدية والرسل: لأن الرسول قد يتوجه إلى الصديق وقد يتوجه إلى العدو، والجاسوس لا يتوجه إلا إلى العدو، وإذا وثق بجاسوسه فإنه إلى ما يأتي به صائر، وعليه معتمد، وبه فاعل.
وقد شرطوا في الجاسوس شروطاً: منها أن يكون ممن يوثق بنصيحة وصدقه، فإن الظنين لا ينتفع بخبره وإن كان صادقاً لأنه ربما أخبر بالصدق فاتهم فيه فتفوت فيه المصلحة. بل ربما آثر الضرر لمن هو عين له إذ المتهم فيه فتفوت فيه المصلحة. بل ربما آثر الضرر لمن هو عين له إذ المتهم في الحقيقة عين عليك لا عون لك. وكيف يكون المتهم أميناً! لا سيما فيما يصرف فيه جليل الأموال من القضايا العظيمة إن سلمت نفسيات النفوس.
ومنها أن يكون ذا حدس صائب وفراسة تامة: ليدرك بوفور عقله وصائب حدسه من أحوال العدو بالمشاهدة ما كتموه عن النطق به، ويستدل فيما هو فيه ببعض الأمور على بعض؛ فإذا تفرس في قضية ولاح له أمر آخر يعضدها قوي بحثه فيها بانضمام بعض القرائن إلى بعض.
ومنها أن يكون كثير الدهاء والحيل والخديعة: ليتوصل بدهائه إلى كل موصل، ويدخل بحيلته في كل مدخل، ويدرك مقصده من أي طريق أمكنه. فإنه متى كان قاصراً في هذا الباب أوشك أن يقع ظفر العدو به أو يعود صفر اليدين من طلبته.
ومنها أن يكون له دربة بالأسفار ومعرفة بالبلاد التي يتوجه إليها: ليكون أغنى له عن السؤال عنها وعن أهلها، فربما كان في السؤال تنبه له وتيقظ لأمره فيكون ذلك سبباً لهلاكه؛ بل ربما وقع في العقوبة وسئل عن حال ملكه فدل عليه وكان عيناً عليه لا له.
ومنها أن يكون عارفاً بلسان أهل البلاد التي يتوجه إليها ليلتقط ما يقع من الكلام فيما ذهب بسببه ممن يخالطه من أهل تلك المملكة وسكان البلاد العالمين بأخبارها، ولا يكون مع ذلك ممن يتهم بممالأة أهل ذلك اللسان، من حيث إن الغالب على أهل كل لسان أتحاد الجنس، والجنسية علة الضم.
ومنها أن يكون صبوراً على ما لعله يصير إليه من عقوبة إن ظفر به العدو بحيث لا يخبر بأحوال ملكه ولا يطلع على وهن في مملكته؛ فإن ذلك لا يخلصه من يد عدوه، ولا يدفع سطوته عنه. بل ولا يعرف أنه جاسوس أصلاً؛ فإن ذلك مما يحتم هلاكه ويفضي إلى حتفه: إلى غير ذلك من الأمور التي لا يسع استيعابها. فإذا وجد من العيون والجواسيس من هو مستكمل لهذه الشرائط وما في معناها، فعليه أن يظهر لهم الود والمصافاة ولا يطلع أحداً منهم في زمن تصرفه له أنه يتهمه ولا أنه غير مأمون لديه؛ فربما أداه ذلك في أضيق الأوقات أن يكون عيناً عليه؛ فإن الضرورة قد تلجئه لمثل ذلك، خصوصاً إن جذبه إلى ذلك جاذب يستميله عنه مع ما هو عليه من الضرورة، والضرورة قد تحمل الإنسان على مفاسد الأمور، ويجزل لهم الإحسان والبر، ولا يغفل تعاهدهم بالصلات قبل احتياجه إليهم. ويزيد في ذلك عند توجههم إلى المهمات، ويتعهد أهليهم في حضورهم وغيبتهم ليملك بذلك قلوبهم ويستصفي به خواطرهم. وإن قضي على من بعثه منهم بقضاء، أحسن إلى ورد بنفسه عليه ليكون ذلك داعياً لغيره على طلبة وهو ثقة، فلا يستوحش منه بل يوليه الجميل، ويعامله بالإحسان؛ فإنه إن لم ينجع المرة نجع الأخرى. وعليه أن يحترز عن أن تعرف جواسيسه بعضهم بعضاً لا سيما عند التوجه للمهمات. وإن استطاع أن لا يجعل بينه وبينهم واسطة فعل، وإن لم يمكنه ذلك جعل لكل واحد منهم رجلاً من بعض خاصته يتولى إيصاله إليه فإنه إذا علم بعضهم ببعض ربما أظهره، بخلاف ما إذا اختص الواجد بالسر. وأيضاً فإنه لا يؤمن اتفاقهم عليه وممالأتهم لعدوه. وكذلك يحترز عن تعرف أحد من عسكره عيونه وجواسيسه؛ فإن ذلك ربما يؤدي إلى انتشار السر والعود بالمفسدة. وعليه أن يصغي إلى ما يلقيه إليه كل من جواسيسه وعيونه وإن اختلفت أخبارهم ويأخذ بالأحوط فيما يؤديه إليه اجتهاده من ذلك ولا يجعل اختلافهم ذنباً لأحد منهم، فقد تختلف أخبارهم وكل منهم صادق فيما يقوله؛ إذ كل واحد قد يرى ما لا يرى الآخر، ويسمع ما لا يسمعه. وإذا عثر على أحد من جواسيسه بزلة فليسترها عنه وعليه، ولا يعاقبه على ذلك ولا يوبخه عليه فإن وبخه ففي خلوة بلطف مذكراً له أمر الآخرة وما في ممالأة العدو والخيانة من الوبال في الآخرة. ولا بأس بأن يجري له ذكر ما عليه من مصافاته ومودته وأنه مع العدو على غرر لا يدري ما هو صائر إليه؛ فإن ذلك أدعى لاستصلاحه. ولا شك أن استصلاحه إما في الوقت أو فيما بعد خير من ثبات فساده، فربما أداه ذلك إلى ممالأة العدو ومباطنته، لا سيما إذا كان العدو معروفاً بالحلم والصفح، وكثرة البذل والعطاء. وإذا حضر إليه جاسوس بخبر عن عدوه استعمل فيه التثبت ودوام البشر ولا يظهر تهافتاً عليه تظهر معه الخفة، ولا إعراضاً عنه يفوت معه قدر المناصحة، ولا يظهر له كراهة ما يأتيه به من الأخبار المكروهة فإن ذلك مما يستدعي فيه كتمان السر عنه فيما يكره فيؤدي إلى الإضرار به.
وقد حكي عن بعض الملوك أنه كان يعطي من يأتيه بالأخبار المكروهة من الجواسيس أكثر مما يعطي من يأتيه بالأخبار السارة.
واعلم أنه لا يمكن أحداً ممن يمنع بلاده أو عسكره من جواسيس عدوه، فيجب الاحتراز منهم بكتمان السر وستر العورة ما أمكنه، على أنه ربما دعت الضرورة في بعض الأحيان إلى أن يعرف الملك عدوه بعض أموره على حقيقته لأمر يحأول به مكيدته. والطريق في ذلك أن يتلطف إلى أن يصير جاسوس عدوه جاسوساً له بأن يتودد إليه بالاستمالة والبر وكثرة البذل حتى يستخرج نصيحته، فحينئذ يلقي إليه ما أراد تبليغه إلى صاحبه الأول مما فيه المكيدة فيوصله إليه فيكون أقرب لقبوله من بلوغه له من غيره ممن يتهمه.
الأمر العاشر: نظره في أمور القصاد الذين يسافرون بالملطفات من الكتب عند تعذر وصول البرد إلى ناحية من النواحي:
وهو من أعظم مهمات السلطنة وآكدها. وقد ذكر ابن الأثير في تاريخه: أن أول من اتخذ السعاة من الملوك معز الدولة بن بويه أول ملوك الديلم بعد الثلاثين والثلثمائة:
وكان سبب ذلك أنه كان ببغداد، وأخوه ركن الدولة ابن بويه بأصبهان وما معها فأراد معز الدولة سرعة إعلام أخيه ركن الدولة بتجددات الأخبار فأحدث السعاة وانتشى في أيامه سأعيان اسم أحدهما فضل والآخر مرعوش، وكان أحدهما ساعي السنة والآخر ساعي الشيعة، وتعصب لكل منهما فرقة، وبلغ من شأنهما أن كل واحد منهما كان يسير في كل يوم نيفاً وأربعين فرسخاً، وأستمر حكم السعاة ببغداد إلى زماننا حتى إن منهم ساعيين لركاب السلطان يمشيان أمامه في المواكب وغيرها على قرب.
قلت: وقد رأيتهما في خدمة السلطان أحمد بن أويس صاحب بغداد حين قدم مصر في دولة الظاهر برقوق فاراً من تمر. أما الديار المصرية فإنه لا يتعانى ذلك عندهم إلا خفاف الشباب من مكارية الدواب ونحوهم ممن يعتاد شدة العدو إلا أنه إذا طرأ مهم سلطاني يقتضي إيصال ملطف مكاتبة عن الأبواب السلطانية إلى بعض النواحي وتعذر إيصاله على البريد لحيلولة عدو في الطريق أو انقطاع خيل البريد من المراكز السلطانية لعارض، انتدب كاتب السر بأمر السلطان من يعرف بسرعة المشي وشدة العدو للسفر ليوصل ذلك الملطف إلى المكتوب إليه والإتيان بجوابه. وربما كتب الكتابان فأكثر إلى الشخص الواحد في المعنى الواحد ويجهز كل منهما صحبة قاصد مفرد خوف أن يعترض واحد في المعنى الواحد ويجهز كل منهما صحبة قاصد مفرد خوف أن يعترض واحد فيمضي الآخر إلى مقصده كما تقدم في بطائق الحمام الرسائلي. وقد أخبرني بعض من سافر في المهمات السلطانية من هؤلاء أنهم في الغالب عند خوف العدو يمشون ليلاً ويكمنون نهاراً وإذا مشوا في الليل يأخذون جانباً عن الطريق الجادة، يكون بين كل اثنين منهم مقدار رمية سهم حتى لا يسمع لهم حس فإذا طلع عليهم النهار كمنوا متفرقين مع مواعدتهم على مكان يتلاقون فيه في وقت المسير.
الأمر الحادي عشر: نظره في أمر المناور والمحرقات:
أما المناور فسيأتي أنه في الزمان المتقدم عند وقوع الحروب بين التتار وأهل هذه المملكة، كان بين الفرات بآخر الممالك الشامية وإلى قريب من بلبيس من أعمال الديار المصرية أمكنة مرتبة برؤوس جبال عوال، بها أقوام مقيمون فيها، لهم رزق على السلطان من إقطاعات وغيرها إذا حدث حادث عدو من بلاد التتار، واتصل ذلك بمن بالقلاع المجاورة للفرات من الأعمال الحلبية: فإن كان ذلك في الليل أوقدت النار بالمكان المقارب للفرات من رؤوس تلك الجبال فينظره من بعده، فيوقد النار فينظره من بعده، فيوقد النار وهكذا حتى ينتهي الوقود إلى المكان الذي بالقرب من بلبيس في يوم أو بعض يوم، فيرسل بطاقته على أجنحة الحمام بالإعلام بذلك فيعلم أنه قد تحرك عدو في الحملة فيؤخذ في التأهب له حتى تصل البرد بالخبر مفصلاً.
وأما المحرقات فسيأتي أنه كان أيضاً قوم من هذه المملكة مرتبون بالقرب من بلاد التتار يتحيلون على إحراق زروعهم بأن تمسك الثعالب ونحوها وتربط الخرق المغموسة في الزيت بأذناب تلك الثعالب وتوقد بالنار وترسل في زروعهم إذا يبست فيأخذها الذعر من تلك النار المربوطة بأذنابها فتذهب في الزروع آخذة يميناً وشمالاً فما مرت بشيء منه إلا أحرقته وتواصلت النار من بعضها إلى بعض فتحرق المزرعة عن آخرها.
قلت: وهذان الأمران قد بطل حكمهما من حين وقوع الصلح بين ملوك مصر وملوك التتار على ما سيأتي ذكره في موضعه إن شاء الله تعالى.
الأمر الثاني عشر: نظره في الأمور العامة مما يعود نفعه على السلطان والمملكة:
قد تقدم في أول هذا الفصل في الكلام على بيان رتبة صاحب ديوان الإنشاء من كلام صاحب مواد البيان أنه ليس في منزلة خدم السلطان والمتصرفين في مهماته أخص منه، من حيث إنه أول داخل على الملك وآخر خارج عنه وأنه لا غنى به عن مفاوضته في آرائه والإفضاء إليه بمهماته، وتقريبه في نفسه في آناء ليلة وساعات نهاره، وأوقات ظهوره للعامة وخلواته، وإطلاعه على حوادث دولته ومهمات مملكته، وأنه لا يثق بأحد من خاصته ثقته به، ولا يركن إلى قريب ولا نسيب ركونه إليه؛ ومن كان بهذه الرتبة من السلطان والقرب منه، وجب عليه أن لا يألوه نصحاً فيما يعلم أنه أصلح لمملكته وأعمر لبلاده وأرغم لأعاديه وحساده وأثبت لدولته وأقوى لأسباب مملكته.
فقد حكي عن علي بن زيد الكاتب: أنه صحب بعض الملوك فقال للملك: أصحبك على ثلاث خلال، قال وما هي؟ قال لا تهتك لي ستراً، ولا تشتم لي عرضاً، ولا تقبل في قول قائل حتى تستبرئ. فقال له الملك: هذه لك عندي فمالي عندك؟ قال: لا أفشي لك سراً، ولا أؤخر عنك نصيحة، ولا أوثر عليك أحداً. قال: نعم الصاحب المستصحب أنت!.
فإذا انتهى إلى صاحب الديوان خبر يتعلق بجلب منفعة إلى المملكة أو دفع مضرة عنها، أطلع السلطان عليه في أسرع وقت وأعجله قبل فوات النظر فيه ونحله فيه صائب رأيه، ثم رد النظر فيه إلى رأي السلطان ليخرج عن عهدته. وإن ارتاب في خبر المخبر أحضره معه إلى السلطان ليشافهه فيه حتى يكون بريئاً عن تبعته، ولا يهمل تبليغ خبره بمجرد الريبة لاحتمال صحته في نفس الأمر فيلحق بواسطة إهماله ضرر لا يمكن تداركه. وكذلك الحال في سائر ما يرجع إلى صلاح المملكة وحسن تدبيرها.